كيف تحوّل الأدب من ظاهرة فردية إلى حركة كبرى؟

الياس خوري عن الرواية اللبنانية ما بعد الحرب

فاطمة عبدالله- الشرق الأوسط

في الرابع والعشرين من هذا الشهر، استضافت «مكتبة السبيل» في الباشورة ببيروت الروائي إلياس خوري لإلقاء محاضرة عن «الرواية اللبنانية ما بعد الحرب».

لكن الخوري اختار موضوعاً «شغله لسنوات»، واصفاً إياه بأنه «خطر جداً، ولا نزال نعيشه». بالنسبة إليه، لم تنتهِ الحرب. يعترف بأنه انتقى عمداً «عنواناً خاطئاً»، لأن «فكرة ما بعد الحرب هي جزء من تراث كامل قائم على المحو».

يتوقف الخوري عند غياب التدوين الأدبي لمحطات تاريخية شهدت حروباً طاحنة، كنشوء نظام المتصرفية وفرضه تقسيم الوظائف العامة وفق الطوائف، ثم قيام عصر النهضة الشاهد على ثقافات كبرى بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ضمّت شخصيات ثقافية كفارس الشدياق وبطرس البستاني فإبراهيم اليازجي، الذين ركّزوا جهدهم على تحديث اللغة. يسمّي المعارك المندلعة في تلك الحقبة بـ«المخجلة» لكونها «أهلية وطائفية».

خلاصته من استعادة المشهدية السياسية التاريخية هي تأكيد غياب نتاج روائي يدوّن تلك الحرب، «باستثناء خطابات الطوائف المختلفة وبعض المذكرات». وما لم يدوّنه الأدب أيضاً هو «انهيار صناعة الحرير في جبل لبنان، وتفسير ذلك معقد». ويعزو المحاضر الأسباب إلى «التروما والخرس الذي أصاب المجتمع، إضافة إلى نقص الأدوات». مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وصعود موجة الهجرة إلى الأميركيتين، كما يضيف المحاضر، تفاقمت المجاعة «التي بدورها لم تشكل مادة دسمة للأدب». ويضرب مثالاً يتيماً برواية «الرغيف» لتوفيق يوسف و«عدا ذلك إشارات صغيرة».

يكرر الخوري مفردة «المحو» مرات خلال الندوة، فهو «مُنظّم على عكس النسيان الذي قد يكون مرتبطاً بالكوما أو الصدمة». وبرأيه، «الحرب ليست ذاكرة تُستعاد بل هي حاضر، والحاضر معلق».

يتابع السرد التاريخي ليصل إلى العام 1920 وإعلان دولة لبنان الكبير. مرة أخرى: «الأدب غائب، حتى عن انفجارات شهدها عصر الانتداب الفرنسي». ثم تتوالى المحطات: توقيع الميثاق الوطني في العام 1943 ونكبة فلسطين، فالحروب الممهدة للانفجار الكبير الناجم عن التوترات المسلحة في العام 1975 حتى العام 1990 وما تُسمّى «نهاية» الاقتتال الداخلي.

يبني استنتاجاً مفاده أنّ «نظام الحرب الأهلية القائم على فرضية الانفجار في أي وقت، هو ما تأسس في لبنان ولا يزال قائماً».

كل هذا، «وما زلتُ في المقدمة»، يقول إلياس خوري راسماً ضحكة على وجوه ظنّت اللقاء سيمتد، فطمأنها: «لكنني لن أطيل». يدخل صلب الموضوع بسؤالين: «ما أثر الواقع اللبناني المرتبط ببنية النظام الطائفي، على الرواية؟ وماذا حدث على المستوى الأدبي؟». يقول: «فكرة عصر النهضة أنتجت مسألتين متزامنتين: الإحياء وهو استعادة الشعر بالصيغة العباسية، والأدب المهجري بأعلامه جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني، الذي أخذ تطوير اللغة إلى ضفة جديدة، وجعلها أكثر سلاسة بقربها من المحكيّ والحياة اليومية من دون أن تكون محكية».

ويذكر هنا مدرستَي الشعر: الرمزية والرومانسية، قبل الحديث عن مارون عبود في الأدب ودوره الأساسي في انفتاح اللغة الفصحى على العامية وبلورة حكاية نقدية عن المجتمع، رغم سيطرة القصيدة. «فالرواية الصاعدة في الخمسينات لم يشكل صعودها حركة روائية، بل مهّد لولادتها، بعدما بدأ الشعر الحديث بطرح أسئلة عن الإنسان والوجود والفلسفة». وما مهّد أيضاً لولادة الرواية اللبنانية، كما يتابع، هي الحركة المسرحية في الستينات ثم المسرح الحكواتي وأبرز رواده روجيه عساف بقدرته على قصّ التجربة المعيشة. وكانت حرب الـ1975 «محطة شاهدة على تغيّر جذري بالوعي الأدبي، مما سمح بتحوّل الرواية اللبنانية من ظواهر فردية إلى حركة كبرى».

لكنّ «الرواية روايات والتاريخ تواريخ، والحكاية عالم مفتوح لا يمكن ضبطه، متشظٍّ كعالمنا وتجربتنا اللبنانية»، يقول كاتب «باب الشمس»، الذي يرى أن «اللحظة الكبرى في التاريخ هي التي يحتاج فيها العالم إلى إعادة صياغة المعنى، وهو موجود إن استطعنا لملمة الشظايا والكتابة بلغة تحمل نبض الحياة اليومية… وهذا التحدي الأكبر الذي يواجه الأدب».

ونسأله: كيف يُكتب الموضوع الواحد بمئات الأقلام؟ فيردّ بأنه يطرح هذا السؤال على نفسه، «في الكتابة والحياة… المسألة ليست أن (نتحدث عن) بل أن (نتماهى بـ). الحكاية الواحدة تُروى بطرق عدة ومن منظورات مختلفة، وهذا شرط وجود الكاتب. في أدبي أروي وجهة نظر المهمّشين والمطرودين من المجتمع».

 

كيف تحوّل الأدب من ظاهرة فردية إلى حركة كبرى؟ | الشرق الأوسط (aawsat.com)